فصل: تفسير الآيات رقم (57- 58)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أن يبين لكم، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وأمرت لأعدل بينكم‏"‏ ‏(‏الشورى- 15‏)‏ أي‏:‏ أن أعدل، وقوله‏:‏ ‏"‏وأمرنا لِنُسلمَ لرب العالمين‏"‏ ‏(‏الأنعام- 71‏)‏، وقال في موضع آخر ‏"‏وأُمرتُ أن أسلم‏"‏ ‏(‏غافر- 66‏)‏‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ يريد الله أن يبين لكم، أي‏:‏ يوضح لكم شرائع دينكم ومصالح أموركم، قال عطاء‏:‏ يبين لكم ما يقربكم منه، قال الكلبي‏:‏ يبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير لكم، ‏{‏وَيَهْدِيَكُم‏}‏ ويرشدكم، ‏{‏سُنَنَ‏}‏ شرائع، ‏{‏الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ في تحريم الأمهات والبنات والأخوات، فإنها كانت محرمة على من قبلكم‏.‏

وقيل‏:‏ ويهديكم الملة الحنيفية وهي ملة إبراهيم عليه السلام، ‏{‏وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ويتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبين لكم، وقيل‏:‏ يرجع بكم من المعصية التي كنتم عليها إلى طاعته، وقيل‏:‏ يوفقكم للتوبة ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ‏}‏ بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم، ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ فيما دبر من أمورهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا ‏(‏27‏)‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا ‏(‏28‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ إن وقع منكم تقصير في أمر دينه ‏{‏وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا‏}‏ عن الحق، ‏{‏مَيْلا عَظِيمًا‏}‏ بإتيانكم ما حرّم عليكم، واختلفوا في الموصوفين باتّباع الشهوات، قال السدي‏:‏ هم اليهود والنصارى، وقال بعضهم‏:‏ هم المجوس لأنهم يُحلّون نكاح الأخوات وبنات الأخ والأخت، وقال مجاهد‏:‏ هم الزناة يريدون أن تميلوا عن الحق فتزنون كما يزنون، وقيل‏:‏ هم جميع أهل الباطل‏.‏

‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ‏}‏ يسهلَ عليكم في أحكام الشرع، وقد سهل كما قال جلّ ذكره‏:‏ ‏"‏ويضع عنهم إصرهم‏"‏ الأعراف- 157‏)‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بعثتُ بالحنيفية السمحة السلهة‏"‏، ‏{‏وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ قال طاووس والكلبي وغيرهما في أمر النساء‏:‏ لا يصبر عنهن، وقال ابن كيسان‏:‏ ‏{‏وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ يستميله هواه وشهوته، وقال الحسن‏:‏ هو أنه خلق من ماء مهين، بيانه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏الله الذي خلقكم من ضعف‏"‏ الروم- 54‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ‏}‏ بالحرام، يعني‏:‏ بالربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة ونحوها، وقيل‏:‏ هو العقود الفاسدة ‏{‏إلا أن تكون تجارة‏}‏، قرأ أهل الكوفة ‏{‏تِجَارَةً‏}‏ نصب على خبر كان، أي‏:‏ إلا أن تكون الأموال تجارةً، وقرأ الآخرون بالرفع، أي‏:‏ إلا أن تقع تجارةٌ، ‏{‏عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بطيبة نفس كل واحد منكم‏.‏

وقيل‏:‏ هو أن يجيز كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد البيع، فيلزم، وإلا فلهما الخيار ما لم يتفرقا لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏المتبايعان كلُّ واحد منهما بالخيار على صاحبه، ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار‏"‏‏.‏

‏{‏وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أي لا تُهلكوها، كما قال‏:‏ ‏"‏ولا تُلقوا بأيديكم إلى التَّهْلُكة‏"‏ البقرة- 195‏)‏، وقيل‏:‏ لا تقتلوا أنفسكم بأكل المال بالباطل‏.‏

وقيل‏:‏ أراد به قتل المسلم نفسه، أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا ابن عيينة، عن أيوب، عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذِّب به يوم القيامة‏"‏‏.‏

حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي، أخبرنا أبو معاذ عبد الرحمن المزني، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن حماد القاضي، أنا أبو موسى الزَّمِن، أنا وهب بن جرير، أخبرنا أبي، قال سمعت الحسن‏:‏ أخبرنا جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خرج برجل فيمن كان قبلكم أرابٌ فجزع منه، فأخرج سكينًا فحزَّ بها يده فما رقأ الدمُ حتى مات‏"‏ فقال الله عز وجل‏:‏ بادرني عبدي بنفسه فَحَرَّمْتُ عليه الجنة‏"‏

وقال الحسن‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم‏}‏ يعني‏:‏ إخوانَكم، أي‏:‏ لا يقتل بعضُكم بعضًا، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا‏}‏ أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا سليمان بن حرب، أنا شعبة، عن علي بن مدرك، قال‏:‏ سمعت أبا زرعة بن عمرو بن جرير عن جده قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع‏:‏ ‏"‏استنصت الناس‏"‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏لا ترجعُنَّ بعدي كفارا يضرب بعضُكم رقابَ بعض‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ ما سبق ذكره من المحرّمات، ‏{‏عُدْوَانًا وَظُلْمًا‏}‏ فالعدوان مجاوزة الحدّ والظلم وضع الشيء في غير موضعه، ‏{‏فَسَوْفَ نُصْلِيهِ‏}‏ ندخله في الآخرة، ‏{‏نَارًا‏}‏ يُصلى فيها، ‏{‏وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا‏}‏ هينا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ‏}‏ اختلفوا في الكبائر التي جعل الله اجتنابها تكفيرًا للصغائر‏:‏ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا محمد بن مقاتل، أنا النضر، أخبرنا شعبة، أنا فراس، قال‏:‏ سمعت الشعبي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الكبائر‏:‏ الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدين، وقتلُ النفس، واليمينُ الغَمُوس‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا مسدد، أنا بشر بن المفضَّل، أنا الجريري، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا أنبئكم بأكبر الكبائر‏؟‏ ‏"‏ ثلاثًا قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله، قال‏:‏ ‏"‏الإشراكُ بالله عز وجل، وعقوقُ الوالدين، وجلسَ وكان متكئًا فقال‏:‏ ألا وقولُ الزور ألا وقول الزور، فما زال يكررُها حتى قلنا ليتَه سكت‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، أنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتيّ، أنا محمد بن كثير، أنا سفيان الثوري، عن الأعمش ومنصور، وواصل الأحدب عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله رضي الله عنهما قال‏:‏ قلتُ يا رسول الله أيُّ الذنب أعظم عند الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تجعلَ لله ندًّا وهو خلقك، قلت‏:‏ ثم أيّ‏؟‏ قال‏:‏ أن تقتل ولدَك خشية أن يأكل معك، قلتُ‏:‏ ثم أيُّ‏؟‏ قال‏:‏ أن تزاني حليلة جارك‏"‏، فأنزل الله تعالى تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ‏}‏ الآية‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثني سليمان، عن ثور بن زيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏اجتنبوا السبع الموبقات‏:‏، قالوا‏:‏ يا رسول الله وما هن‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الشركُ بالله والسّحرُ وقتلُ النفس التي حرَّمُ الله إلا بالحق، وأكل الرِّبا وأكل مال اليتيم، والتولي يومَ الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات‏"‏‏.‏

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏:‏ أكبر الكبائر‏:‏ الإشراكُ بالله والأمنُ من مكر الله والقنوطُ من رحمة الله واليأسُ من روح الله‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا عبد الرحمن بن أبي شريح، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي، أنا علي بن الجعد، أنا شعبة، عن سعيد بن إبراهيم، قال‏:‏ سمعت حميد بن عبد الرحمن يحدث عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من الكبائر أن يسبَّ الرجلُ والديه، قالوا‏:‏ وكيف يسبّ الرجل والديه‏؟‏ قال‏:‏ يسبُّ الرجلُ أبا الرجل فيسبُّ أباه ويسبُّ أمه‏"‏‏.‏

وعن سعيد بن جبير‏:‏ أن رجلا سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن الكبائر‏:‏ أسبع هي‏؟‏ قال‏:‏ هن إلى السبعمائة أقرب إلا أنه لا كبيرةَ مع الاستغفار ولا صغيرةَ مع الإصرار، وقال‏:‏ كل شيء عُصيَ الله به فهو كبيرة، فمن عمل شيئًا منها فليستغفر فإن الله لا يخلّد في النار من هذه الأمة إلا راجعًا عن الإسلام أو جاحدًا فريضة أو مكذبًا بقدر‏.‏

وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ ما نهى الله تعالى عنه في هذه السورة إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه‏"‏ فهو كبيرة‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة‏:‏ هي كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ما أوعد الله عليه حدًا في الدنيا أو عذابًا في الآخرة‏.‏

وقال الحسن بن الفضل‏:‏ ما سماه الله في القرآن كبيرًا أو عظيمًا نحو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏إنه كان حوبًا كبيرًا‏"‏ النساء- 2‏)‏، ‏"‏إن قتلهم كان خطئًا كبيرًا‏"‏ الإسراء- 31‏)‏، ‏"‏إن الشرك لظلمٌ عظيم‏"‏ لقمان- 13‏)‏، ‏"‏إن كيدَكُنَّ عظيم‏"‏ يوسف- 28‏)‏ ‏"‏سبحانك هذا بهتانٌ عظيم‏"‏ النور- 16‏)‏ ‏"‏إن ذلكم كان عند الله عظيمًا‏"‏ الأحزاب- 53‏)‏‏.‏

قال سفيان الثوري‏:‏ الكبائر ما كان فيه المظالم بينك وبين العباد، والصغائر ما كان بينك وبين الله تعالى، لأنّ الله كريم يعفو، واحتج بما أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الله بن علي الكرماني، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، أنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن سعيد، أنا الحسين بن داؤد البلخي، أنا يزيد بن هارون، أنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ينادي مناد من بطنان العرش يوم القيامة‏:‏ يا أمّة محمد إن الله عز وجل قد عفا عنكم جميعًا المؤمنين والمؤمنات، تواهبُوا المظالم وادخلوا الجنة برحمتي‏"‏‏.‏

وقال مالك بن مغول‏:‏ الكبائر ذنوب أهل البدع، والسيئات ذنوب أهل السنة‏.‏

وقيل‏:‏ الكبائر ذنوب العمد، والسيئات الخطأ والنسيان وما أكره عليه، وحديث النفس المرفوع عن هذه الأمة‏.‏

وقيل‏:‏ الكبائر ذنوب المستحلّين مثل ذنب إبليس، والصغائر ذنوب المستغفرين مثل ذنب آدم عليه السلام‏.‏

وقال السدي‏:‏ الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب الكبائر، والسيئات مقدِّماتُها وتوابعها مما يجتمع فيه الصالح والفاسق، مثل النظرة واللمسة والقبلة وأشباهها‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، ويُصدِّق ذلك الفرجُ أو يكذبه‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ الكبائر ما يستحقره العباد، والصغائر ما يستعظمونه فيخافون مواقعته، كما أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو الوليد، أنا مهدي بن غيلان، عن أنس قال‏:‏ إنّكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إنْ كنّا نعدُّها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات‏.‏

وقيل‏:‏ الكبائر الشرك وما يؤدي إليه، وما دون الشرك فهو السيئات، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دُونَ ذلك لمن يشاء‏"‏ النساء- 48، 116‏)‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من الصلاة إلى الصلاة ومِنَ الجمعة إلى الجمعة ومن رمضان إلى رمضان‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنا عبد الغافر بن محمد، أنا محمد بن عيسى الجلودي، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، حدثني هارون بن سعيد الأيلي أنا ابن وهب عن أبي صخر أن عمر بن إسحاق مولى زائدة حدثه عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏"‏الصلواتُ الخمسُ والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى رمضان، مكفِّراتُ لما بينهنّ إذا اجتنب الكبائر‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا‏}‏ أي‏:‏ حسنا وهو الجنة، قرأ أهل المدينة ‏{‏مَدْخَلا‏}‏ بفتح الميم هاهنا وفي الحج، وهو موضع الدخول، وقرأ الباقون بالضم على المصدر بمعنى الإدخال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏32‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ الآية، قال مجاهد‏:‏ قالت أم سلمة‏:‏ يا رسول الله إن الرجال يغزون ولا نغزو ولهم ضعفُ ما لنا من الميراث، فلو كنّا رجالا غزونا كما غزوا وأخذنا من الميراث مثل ما أخذوا‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

وقيل‏:‏ لما جعل الله عز وجل للذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث، قالت النساء‏:‏ نحن أحقُّ وأحوج إلى الزيادة من الرجال، لأنّا ضعفاء وهم أقوى وأقدر على طلب المعاش، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏‏.‏

وقال قتادة والسدي لما نزل قوله‏:‏ ‏{‏لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ‏}‏ قال الرجال إنّا لنرجو أن نُفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة فيكون أجرنا على الضِّعف من أجر النساء كما فُضّلنا عليهنّ في الميراث فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا‏}‏ من الأجر ‏{‏وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ‏}‏‏.‏

معناه‏:‏ أن الرجال والنساء في الأجر في الآخرة سواء، وذلك أن الحسنة تكون بعشر أمثالها يستوي فيها الرجال والنساء، وإن فضل الرجال في الدنيا على النساء‏.‏

وقيل‏:‏ معناه للرجال نصيب مما اكتسبوا من أمر الجهاد وللنساء نصيب مما اكتسبن من طاعة الأزواج وحفظ الفروج، يعني إن كان للرجال فضل الجهاد فللنساء فضل طاعة الأزواج وحفظ الفروج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ قرأ ابن كثير والكسائي وسلوا، وسل، وفسل إذا كان قبل السين واو أو فاء بغير همز، ونقل حركة الهمزة إلى السين، والباقون بسكون السين مهموزا‏.‏ فنهى الله تعالى عن التمنيِّ لما فيه من دواعي الحسد، والحسد أن يتمنى زوالَ النعمة عن صاحبه ويتمنّاها لنفسه، وهو حرام، والغِبطة أن يتمنى لنفسه مثل ما لصاحبه وهو جائز‏.‏ قال الكلبي‏:‏ لا يتمنى الرجلُ مالَ أخيه ولا امرأته ولا خادمه، ولكن ليقل اللهم ارزقني مثله، وهو كذلك في التوراة كذلك في القرآن‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ واسألوا الله من فضله‏:‏ أي‏:‏ من رزقه، قال سعيد بن جبير‏:‏ من عبادته، فهو سؤال التوفيق للعبادة، قال سفيان بن عيينة‏:‏ لم يأمرْ بالمسألة إلا ليُعطي‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏33‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ‏}‏ أي‏:‏ ولكل واحد من الرجال والنساء جعلنا موالي، أي‏:‏ عصبة يُعطون ‏{‏مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ‏}‏ والوالدان والأقربون هم المورِّثون، وقيل‏:‏ معناه ولكل جعلنا موالي أي‏:‏ ورثة، مما ترك أي‏:‏ من الذين تركهم ويكون ‏"‏ ما ‏"‏ بمعنى ‏{‏من‏}‏، ثم فسر ‏{‏الْمَوَالِي‏}‏ فقال‏:‏ ‏"‏الوالدان والأقربون‏"‏، هم الوارثون‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ قرأ أهل الكوفة ‏{‏عَقَدَت‏}‏ بلا ألف، أي‏:‏ عقدت لهم أيمانكم، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏ عاقدت أيمانكم ‏"‏ والمعاقدة‏:‏ المحالفة والمعاهدة، والأيمان جمع يمين، من اليد والقسم، وذلك أنهم كانوا عند المحالفة يأخذ بعضُهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد‏.‏ ومحالفتهم أن الرجل كان في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول‏:‏ دمي دمك وهدمي هدمك وثأري ثأرك وحربي حربك وسِلْمِي سِلْمُك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من مال الحليف، وكان ذلك ثابتا في ابتداء الإسلام فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أعطوهم حظَّهم من الميراث، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى ‏"‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله‏"‏ الأحزاب 6‏)‏‏.‏

وقال إبراهيم ومجاهد‏:‏ أراد فآتوهم نصيبهم من النصر والرفد ولا ميراث، وعلى هذا تكون هذه الآية غير منسوخة لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏أوفوا بالعقود‏"‏ المائدة- 1‏)‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم فتح مكة‏:‏ ‏"‏لا تحدثوا حِلْفًا في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية فتمسّكوا فيه فإنه لم يزدْه الإسلام إلا شِدّة‏"‏‏.‏

وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أنزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار حين قَدِمُوا المدينة وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة دون الرحم، فلما نزلت ‏{‏وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ‏}‏ نسخت، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ‏}‏ النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث فيوصي له‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ كانوا يتوارثون بالتبني وهذه الآية فيه ثم نسخ‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ‏(‏34‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ‏}‏ الآية نزلت في سعد بن الربيع وكان من النقباء وفي

امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، قاله مقاتل، وقال الكلبي‏:‏ امرأته حبيبة بنت محمد بن مسلمة، وذلك أنها نشزت عليه فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أفرشته كريمتي فلطمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لتقتص من زوجها‏"‏، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فجاء جبريل عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ارجعوا هذا جبريل أتاني بشيء‏"‏، فأنزل الله هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أردنا أمرًا وأراد الله أمرًا، والذي أراد الله خير‏"‏، ورفع القصاص‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ‏}‏ أي‏:‏ مسلّطون على تأديبهن، والقوّام والقيم بمعنى واحد، والقوام أبلغ وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب‏.‏

‏{‏بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ يعني‏:‏ فضل الرجال على النساء بزيادة العقل والدين والولاية، وقيل‏:‏ بالشهادة، لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان‏"‏ البقرة- 282‏)‏ وقيل‏:‏ بالجهاد، وقيل‏:‏ بالعبادات من الجمعة والجماعة، وقيل‏:‏ هو أن الرجل ينكح أربعا ولا يحل للمرأة إلا زوج واحد، وقيل‏:‏ بأن الطلاق بيده، وقيل‏:‏ بالميراث، وقيل‏:‏ بالدّية، وقيل‏:‏ بالنبوّة‏.‏

‏{‏وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ إعطاء المهر والنفقة، أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، قال‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، أنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتيّ أنا أبو حذيفة، أنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظبيان أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ‏}‏ أي‏:‏ مطيعات ‏{‏حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ‏}‏ أي‏:‏ حافظات للفروج في غيبة الأزواج، وقيل‏:‏ حافظات لسرهم ‏{‏بِمَا حَفِظَ اللَّهُ‏}‏ قرأ أبو جعفر ‏{‏بِمَا حَفِظَ اللَّهُ‏}‏ بالنصب، أي‏:‏ يحفظن الله في الطاعة، وقراءة العامة بالرفع، أي‏:‏ بما حفظهن الله بإيصاء الأزواج بحقهن وأمرهم بأداء المهر والنفقة‏.‏

وقيل‏:‏ حافظات للغيب بحفظ الله، أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو عبد الله بن فنجوية، أخبرنا عمر بن الخطاب، أنا محمد بن إسحاق المسوحي، أنا الحارث بن عبد الله، أنا أبو معشر عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خير النساء امرأة إن نظرتَ إليها سرتْكَ وإن أمرتها أطاعتْكَ وإذا غِبْتَ عنها حفظتْكَ في مالها ونفسها‏"‏، ثم تلا ‏{‏الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ‏}‏ عصيانهن، وأصل النشوز‏:‏ التكبر والارتفاع، ومنه النشز للموضع المرتفع، ‏{‏فَعِظُوهُنَّ‏}‏ بالتخويف من الله والوعظ بالقول، ‏{‏وَاهْجُرُوهُنَّ‏}‏ يعني‏:‏ إن لم ينزعن عن ذلك بالقول فاهْجُرُوهن ‏{‏فِي الْمَضَاجِعِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يوليها ظهره في الفراش ولا يكلمها، وقال غيره‏:‏ يعتزل عنها إلى فراش آخر، ‏{‏وَاضْرِبُوهُن‏}‏ يعني‏:‏ إن لم ينزعن مع الهجران فاضربُوهن ضربًا غير مبرِّح ولا شائن، وقال عطاء‏:‏ ضربًا بالسواك وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏حقُّ المرأة أن تُطعمها إذا طَعِمْتَ وتَكسوها إذا اكتسيتَ ولا تضرب الوجه ولا تُقَبِّحْ ولا تهجر إلا في البيت‏"‏‏.‏

‏{‏فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ لا تجنُوا عليهن الذنوبَ، وقال ابن عُيينة‏:‏ لا تكلفوهنّ محبتكم فإنّ القلبَ ليس بأيديهن‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا‏}‏ متعاليا من أن يُكَلِّفَ العبادَ مالا يُطيقونه، وظاهر الآية يدل على أنّ الزوج يجمع عليها بين الوعظ والهجران والضرب، فذهب بعضهم إلى ظاهرها وقال‏:‏ إذا ظهر منها النشوز جمع بين هذه الأفعال، وحمل الخوف في قوله ‏{‏وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ‏}‏ على العلم كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فمنْ خافَ من مُوصٍ جنفًا‏"‏ البقرة- 182‏)‏ أي‏:‏ علم، ومنهم من حملَ الخوفَ على الخشية لا على حقيقة العلم، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وإمّا تخافنَّ من قوم خيانةً‏"‏ الأنفال- 58‏)‏، وقال‏:‏ هذه الأفعال على ترتيب الجرائم، فإن خاف نُشوزَها بأن ظهرتْ أمارتُه منها مِنَ المُخَاشنة وسوءِ الخُلقُ وَعَظَها، فإن أبدتِ النشوزَ هَجَرها، فإن أصرِّتْ على ذلك ضَرَبها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ‏(‏35‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا‏}‏ يعني‏:‏ شقاقًا بين الزوجين، والخوفُ بمعنى اليقين، وقيل‏:‏ هو بمعنى الظنّ يعني‏:‏ إن ظننتم شقاق بينهما‏.‏

وجملته‏:‏ أنه إذا ظهر بين الزوجين شقاقٌ واشتبه حالهما فلم يفعل الزوج الصفح ولا الفرقة ولا المرأة تأدية الحق ولا الفدية وخرجا إلى ما لا يحل قولا وفعلا بعث الإمام حكمًا من أهله إليه وحكمًا من أهلها إليها، رجلين حرين عدلين، ليستطلع كلُّ واحد من الحكمين رأي من بُعث إليه إن كانت رغبتُه في الوصلة أو في الفُرقة، ثم يجتمع الحكمان فينفذان ما يجتمع عليه رأيُهما من الصلاح، فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا‏}‏ يعني‏:‏ الحكمين، ‏{‏يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا‏}‏ يعني‏:‏ بين الزوجين، وقيل‏:‏ بين الحكمين، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا‏}‏ أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا الثقفي، عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة أنه قال في هذه الآية ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا‏}‏ قال‏:‏ جاء رجل وامرأة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومع كل واحد منهما فئام من الناس، فأمرهم عليّ رضي الله عنه فبعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها ثم قال للحكمين‏:‏ أتدْريَان ما عليكما‏؟‏ إن رأيتما أن تجمعا جمعتُما وإن رأيتما أن تُفرقا فرقتُما، قالت المرأة رضيتُ بكتاب الله بما عليّ فيه ولي، فقال الرجل‏:‏ أما الفُرقة فلا فقال علي رضي الله عنه‏:‏ كذبتَ والله حتى تقر بمثل الذي أقرّتْ به‏.‏

واختلف القول في جواز بعث الحكمين من غير رضا الزوجين‏:‏ وأصح القولين أنه لا يجوز إلا برضاهما، وليس لِحَكَمِ الزوج أن يُطَلّق دون رضاه، ولا لِحَكَمِ المرأة أن يخالع على مالها إلا بإذنها، وهو قول أصحاب الرأي لأنّ عليًا رضي الله عنه، حين قال الرجل‏:‏ أما الفُرقة فلا قال‏:‏ كذبتَ حتى تُقِرَّ بمثل الذي أقرَّتْ به‏.‏ فثبت أن تنفيذ الأمر موقوف على إقراره ورضاه‏.‏

والقول الثاني‏:‏ يجوز بعث الحكمين دون رضاهما، ويجوز لِحَكَمِ الزوج أن يُطَلِّق دُون رضاه ولِحَكَمِ المرأة أن يخلع دون رضاها، إذا رأيا الصلاح، كالحاكم يحكم بين الخصمين وإن لم يكن على وفْق مُرادِهما، وبه قال مالك، ومن قال بهذا قال‏:‏ ليس المراد من قول علي رضي الله عنه للرجل حتى تُقِرّ‏:‏ أن رضاه شرط، بل معناه‏:‏ أن المرأة رضيتْ بما في كتاب الله فقال الرجل‏:‏ أما الفُرقة فلا يعني‏:‏ الفُرقة ليست في كتاب الله، فقال علي‏:‏ كذبْتَ، حيث أنكرتَ أن الفرقة في كتاب الله، بل هي في كتاب الله، فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا‏}‏ يشتمل على الفراق وغيره لأن التوفيق أن يخرج كل واحد منهما من الوِزْرِ وذلك تارة يكون بالفُرقة وتارًة بصلاح حالهما في الوصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا ‏(‏36‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ‏}‏ أي‏:‏ وحدوه وأطيعوه، ‏{‏وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا‏}‏ أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بِشْران، أنا علي أبو إسماعيل محمد بن محمد الصفار، أنا أحمد بن منصور الرَّمادي، أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال‏:‏ كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس‏؟‏ قال قلت‏:‏ الله ورسولُه أعلم، قال‏:‏ حقُّه عليهم أن يعبدوه ولا يُشركُوا به شيئا، أتدري يا معاذ ما حَقُّ الناس على الله إذا فعلوا ذلك‏؟‏ قال‏:‏ قلت الله ورسولُه أعلم، قال‏:‏ فإنّ حقَّ الناس على الله أن لا يعذبهم، قال قلتُ‏:‏ يا رسول الله ألا أُبشِّر الناسَ‏؟‏ قال‏:‏ دعهم يعملون‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ برًا بهما وعطفًا عليهما، ‏{‏وَبِذِي الْقُرْبَى‏}‏ أي‏:‏ أحسنُوا بذي القربى، ‏{‏وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ‏}‏ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عمرو بن زرارة، أنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أنا وكافل اليتيم في الجنِّة هكذا، واشار بالسَّبابة والوُسْطَى وفرّج بينهما شيئَا‏"‏‏.‏

أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، أنا عبد الله بن محمود، أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، أنا عبد الله بن مبارك، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن زَحْر، عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من مَسَحَ رأسَ يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شَعَرَةَ تَمُرّ عليها يَدُهُ حسناتُ، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كَهَاتين وقَرَنَ بين أصبعيه‏"‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى‏}‏ أي‏:‏ ذي القرابة، ‏{‏وَالْجَارِ الْجُنُبِ‏}‏ أي‏:‏ البعيد الذي ليس بينك وبينه قرابة‏.‏ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو عبد الرحمن بن أبي شريح، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، أنا علي بن الجعد، أنا شعبة عن أبي عمران الجوني قال‏:‏ سمعت طلحة قال‏:‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيِّهما أهدي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إلى أقربهما منك بابًا‏"‏‏.‏

أخبرنا الأستاذ الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرايني، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق، أنا يزيد بن سنان، أخبرنا عثمان بن عمر، أخبرنا أبو عامر الخزاز، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تحقرنّ مِنَ المعروف شيئًا ولو أن تلقَى أخاكَ بوجهٍ طَلْقٍ، وإذا طَبخْتَ مرقة فأكثرْ ماءها واغرف لجيرانك منها‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا محمد بن منهال، أنا يزيد بن زريع، أنا عمر بن محمد، عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سَيْوَرِّثُهَ‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ‏}‏ يعني‏:‏ الرفيق في السفر، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وجماعةٌ وعكرمة وقتادة، وقال عليّ وعبد الله والنخعي‏:‏ هو المرأة تكون معه إلى جنبه، وقال ابن جريج وابن زيد‏:‏ هو الذي يصحبك رجاء نَفْعِكَ‏.‏

‏{‏وَابْنَ السَّبِيلِ‏}‏ قيل‏:‏ هو المسافر لأنه مُلازِمٌ للسبيل، والأكثرون‏:‏ على أنه الضيف، أخبرنا الأستاذ الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الاسفراييني، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق، أنا شعيب بن عمرو الدمشقي، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، أنه سمع نافع بن جبير، عن أبي شريح الخزاعي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من كان يؤمُن بالله واليوم الآخر فليُحسنْ إلى جاره، ومن كان يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر فلْيكُرْم ضيفَه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليَقُلْ خيرًا أو ليصمت‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب، عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الكعبي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من كان يُؤْمنُ بالله واليوم الآخر فليُكْرم جارَه، ومَنْ كان يؤمُن بالله واليوم الآخر فليقلْ خيرا أو ليصمتْ، ومن كانَ يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليُكْرم ضيفَه، جائزته يوْمٌ وليلة، والضيافةُ ثلاثةُ أيام، وما كان بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحلُّ أن يثوي- أي‏:‏ أن يقيم- عنده حتى يُحرِجَه‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ المماليك أحسنوا إليهم، أخبرنا محمد بن الحسن المروزي أخبرنا أبو العباس الطحان، أنا أبو أحمد محمد بن قريش، أنا علي بن عبد العزيز المكي أنا أبو عبيد القاسم بن سلام، أنا يزيد، عن همام، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن سفينة، عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في مرضه‏:‏ ‏"‏الصلاةَ وما ملكتْ أيمانُكم‏"‏، فجعل يتكلم وما يفيض بها لسانه‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عمر بن حفص، أنا أبي، أنا الأعمش، عن المعرور، عن أبي ذر رضي الله عنه قال‏:‏ رأيت عليه بُردًا وعلى غلامه بُرْدٌ، فقلتُ‏:‏ لو أخذت هذا فلبسته كانا حُلَّةً وأعطيته ثوبًا آخر، فقال‏:‏ كان بيني وبين رجل كلام وكانت أمه أعجمية فنِلتُ منها فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي أساببت فلانًا‏؟‏ قلتُ‏:‏ نعم، قال‏:‏ أفنِلْتَ أمه‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، قال إنّكَ امرٌؤ فيك جاهلية، قلتُ‏:‏ على ساعتي هذه من كبر السن‏؟‏ قال‏:‏ نعم، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمْهُ مما يأكل وليلِبْسهُ مما يلبس ولا يُكلفْهُ من العمل ما يَغْلبه، فإن كلفه ما يغْلبه فليُعِنْه عليه‏"‏‏.‏

أخبرنا الإمام أبو الحسين بن محمد القاضي، أنا أبو طاهر الزيادي، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمرو بن حفص التاجر، أنا سهل بن عمار، أنا يزيد بن هارون، أخبرنا صدقة بن موسى، عن فرقد السبخي، عن مرة الطيب، عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا يدخل الجنة سيئ المَلَكَةِ‏"‏‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا‏}‏ المختال‏:‏ المتكبر، والفخور‏:‏ الذي يفتخر على الناس بغير الحق تكبرًا، ذكر هذا بَعْدَمَا ذكر من الحقوق، لأن المتكبر يمنع الحق تكبرًا‏.‏

أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي، أنا أبو طاهر الزيادي، أنا محمد بن الحسين القطان، أنا أحمد بن يوسف السلمي، أنا عبد الرزاق أنا معمر، عن همام بن منبه، قال‏:‏ أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بينما رجل يتبختر في بُردين وقد أعجبته نفسُه خَسَفَ الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا ينظرُ الله يوم القيامة إلى من جَرّ ثوبه خيلاء‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏37‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏الَّذِينَ يَبْخَلُونَ‏}‏ البخل في كلام العرب‏:‏ منع السائل من فضل ما لديه، وفي الشرع‏:‏ منع الواجب، ‏{‏وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏بِالْبَخَلِ‏}‏ بفتح الباء والخاء، وكذلك في سورة الحديد، وقرأ الآخرون بضم الباء وسكون الخاء، نزلت في اليهود بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموها‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ هذا في كتمان العلم‏.‏

وقال ابن عباس رضي الله عنهما وابن زيد‏:‏ نزلت في كردم بن زيد وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو كانوا يأتون رجالا من الأنصار ويخالطونهم فيقولون لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون فأنزل الله تعالى هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ يعني المال، وقيل‏:‏ يعني يبخلون بالصدقة ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ‏(‏38‏)‏ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ‏(‏39‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ محل ‏"‏الذين‏"‏ نصب، عطفًا على الذين يبخلون، وقيل‏:‏ خفض عطفًا على قوله‏:‏ و ‏{‏أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ‏}‏ نزلتْ في اليهود، وقال السدي‏:‏ في المنافقين، وقيل‏:‏ في مشركي مكة المتفقين على عَدَاوَةِ الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا‏}‏ صاحبًا وخليلا ‏{‏فَسَاءَ قَرِينًا‏}‏ أي‏:‏ فبئس الشيطان قرينًا وهو نصب على التفسير، وقيل‏:‏ على القطع بإلقاء الألف واللام كما تقول‏:‏ نعم رجلا عبد الله، وكما قال تعالى‏:‏ ‏"‏بئس للظالمين بدلا‏"‏ الكهف- 50‏)‏ ‏"‏ساء مثلا‏"‏ الأعراف- 177‏)‏‏.‏

‏{‏وَمَاذَا عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ما الذي عليهم وأي شيء عليهم‏؟‏ ‏{‏لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏ أدخل ابن عباس يده في التراب ثم نفخ فيها وقال‏:‏ كل واحد من هذه الأشياء ذرة، والمراد أنه لا يظلم‏.‏ لا قليلا ولا كثيرًا‏.‏ ونظمه‏:‏ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا فإن الله لا يظلم أي‏:‏ لا يبخس ولا ينقص أحدًا من ثواب عمله مثقال ذرّة، وزن ذرّة، والذرّة‏:‏ هي النملة الحمراء الصغيرة، وقيل‏:‏ الذرّ أجزاء الهباء في الكُوّة وكل جزء منها ذرّة ولا يكون لها وزن، وهذا مثلٌ، يريد‏:‏ إن الله لا يظلم شيئًا، كما قال في آية أخرى‏:‏ ‏"‏إن الله لا يظلم الناس شيئا‏"‏ ‏(‏يونس 44‏)‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو عمر بكر بن محمد المزني، أنا أبو بكر محمد بن عبد الله الحفيد، أنا الحسين بن الفضل البجلي، أنا عفان، أنا همام، أنا قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله لا يظلمَ المؤمن حسنةً، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويُجزَى بها في الآخرة‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُعطى بها خيرًا‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أبو الطيب الربيع بن محمد بن أحمد بن حاتم البزار الطوسي، أنا أحمد بن محمد بن الحسن، أن محمد بن يحيى حدثهم، أخبرنا عبد الرزاق وأخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا جدّي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار، أنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا خَلَصَ المؤمنون من النار وأمِنُوا، فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشدَّ مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أُدخلو النار، قال‏:‏ يقولون ربَّنا إخواننا كانوا يُصلون معنا ويَصُومون معنا ويَحُجون معنا فأدخلتَهُمُ النار، قال‏:‏ فيقول ذهبوا فأَخرجُوا من عَرَفْتُم منهم فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم لا تأكلُ النار صورَهم فمنهم من أخذَتْهُ النارُ إلى أنصافِ ساقيه ومنهم من أخذتْه إلى كعبيه فيُخرجونهم، فيقولون‏:‏ ربنا قد أخرجنا من أمرتنا، قال‏:‏ ثم يقول‏:‏ أخرجوا من كان في قلبه وزْنُ دينار مَنْ الإيمان، ثم مَنْ كان في قلبه وزنُ نصفِ دينار، حتى يقول‏:‏ من كان في قلبه مثقال ذرةٍ‏"‏، قال أبو سعيد رضي الله عنه‏:‏ فمن لم يصدق هذا فليقرأ هذه الآية‏:‏ ‏"‏إن الله لا يظلم مثقالَ ذرةٍ وإن تَكُ حسنَةً يُضاعِفْهَا ويُؤْتِ من لدنه أجرًا عظيمًا‏"‏ قال‏:‏ فيقولون ربَّنا قد أخرجنا من أمرتنا فلم يبق في النار أحدٌ فيه خير، ثم يقول الله عز وجل‏:‏ شفعتِ الملائكةُ، وشفعتِ الأنبياءُ، وشَفع المؤمنون، وبقي أرحمُ الراحمين، قال‏:‏ فيقبض قبضةً من النار، أو قال‏:‏ قبضتين لم يعملوا لله خيرًا قط قد احترقُوا حتى صاروا حُممًا فيُؤْتَى بهم إلى ماء يقال له‏:‏ ماء الحياة فيصب عليهم فينبتُون كما تنبت الحِبَّةَ في حَميلِ السيل، قال‏:‏ فتخرج أجسادهم مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم‏:‏ عتقاء الله فيقال لهم‏:‏ ادخلوُا الجَنَّةَ فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم، قال فيقولون‏:‏ ربّنا أعطيتنا ما لم تُعطِ أحدًا من العالمين، قال‏:‏ فيقول فإن لكم أفضل منه، فيقولون‏:‏ ربنا وما أفضل من ذلك‏؟‏ فيقول‏:‏ ‏"‏رضاي عنكم فلا أسخط عليكم أبدًا‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أنا محمد بن أحمد بن الحرث، أنا محمد بن يعقوب الكسائي، أنا عبد الله بن محمود، أنا إبراهيم بن عبد الله بن الخلال، أنا عبد الله بن المبارك، عن ليث بن سعد، حدثني عامر بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن المعافري، ثم الجيلي، قال‏:‏ سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رُؤوس الخلائق يوم القيامة فينشرُ عليه تسعةً وتسعين سجلا كل سجل مثل مدَّ البصر، ثم يقول الله‏:‏ أتُنْكر من هذا شيئًا‏؟‏ أَظَلَمَكَ كتبتي الحافظُون‏؟‏ فيقول‏:‏ لا يا رب، فيقول‏:‏ أفَلَكَ عذرٌ أو حسنةُ‏؟‏ فبُهِتَ الرجل، قال‏:‏ لا يا رب، فيقول‏:‏ بلى إنّ لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتُخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، فيقول‏:‏ احضرْ وَزْنَكَ، فيقول‏:‏ يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقول‏:‏ إنك لا تُظلم، قال‏:‏ فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثَقُلتْ البطاقةُ، قال‏:‏ فلا يثقل مع اسم الله شيء‏"‏‏.‏ وقال قوم‏:‏ هذا في الخصوم‏.‏

ورُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏:‏ إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والآخرين ثم نادى منادٍ ألا من كان يطلب مظلمة فليجيء إلى حقه فليأخذه، فيفرح المرء أن يذوب له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه، فيأخذ منه وإن كان صغيرًا، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ‏}‏ ويُؤْتَى بالعبدِ فينادي منادِ على رُؤوس الأولين والآخرين‏:‏ هذا فلان ابن فلان فمن كان له عليه حق فليأتِ إلى حقِّه فيأخذه، ويقال آتِ هؤلاء حقوقَهم فيقول‏:‏ يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا، فيقول الله عز وجل لملائكته انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإنْ بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة‏:‏ يا ربنا بقي له مثقال ذرة من حسنة، فيقول‏:‏ ضعّفُوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة‏.‏ ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا‏}‏ وإن كان عبدًا شقيًا قالت الملائكة‏:‏ إلهنا فنيت حسناتُه وبقي طالبون‏؟‏ فيقول الله عز وجل‏:‏ خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صُكُّوا له صكًّا إلى النار‏.‏

فمعنى الآية هذا التأويل‏:‏ أن الله لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم بل أخذ له منه ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له بل يثيبه عليها ويضَعِّفها له، فذاك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا‏}‏ قرأ أهل الحجاز ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ بالرفع، أي‏:‏ وإن توجد حسنة، وقرأ الآخرون بالنصب على معنى‏:‏ وإن تك زِنةُ الذرةِ حسنةً يضَاعِفْها، أي‏:‏ يجعلها أضعافًا كثيرة‏.‏ ‏{‏وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ قال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ إذا قال الله تعالى أجرًا عظيمًا فمن يقدر قدره‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ‏(‏41‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ‏(‏42‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ فكيف الحال وكيف يصنعون إذا جئنا من كل أمة بشهيد يعني‏:‏ بنبيها يشهد عليهم بما عملوا، ‏{‏وَجِئْنَا بِكَ‏}‏ يا محمد، ‏{‏عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا‏}‏ شاهدًا يشهد على جميع الأمم على من رآه وعلى من لم يره‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا محمد بن يوسف، أنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏اقرأ علي‏"‏، قلتُ‏:‏ يا رسول الله أأقرأُ عليكَ وعليكَ أنزل‏؟‏ قال‏:‏ نعم فقرأت سورة النساء حتى إذا أتيتُ هذه الآية ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏حَسْبُكَ الآن‏"‏ فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذ‏}‏ أي يوم القيامة، ‏{‏يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ‏}‏ قرأ أهل المدينة وابن عامر ‏"‏تسوى ‏"‏ بفتح التاء وتشديد السين على معنى تتسوى، فأدغمت التاء الثانية في السين، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وتخفيف السين على حذف تاء التفعل كقوله تعالى ‏"‏لا تَكَلَّمُ نفسٌ إلا بإذنه‏"‏ هود- 11‏)‏ وقرأ الباقون بضم التاء وتخفيف السين على المجهول، أي‏:‏ لو سُوِّيْت بهم الأرضُ وصاروا هم والأرض شيئًا واحدًا‏.‏

وقال قتادة وأبو عبيدة‏:‏ يعني لو تخرقت الأرض فساخوا فيها وعادوا إليها ثم تسوى بهم، أي‏:‏ عليهم الأرض‏.‏

وقيل‏:‏ ودُّوا لو أنهم لم يُبعثوا لأنهم إنما نُقلوا من التراب، وكانت الأرض مستويةً عليهم‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ يقول الله عز وجل للبهائم والوحوش والطير والسباع‏:‏ كُونُوا تُرابًا فتسوى بهنَّ الأرض، فعند ذلك يتمنّى الكافر أن لو كان ترابًا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ويقولُ الكافرُ يا ليتني كنتُ ترابًا‏"‏ النبأ 40‏)‏‏.‏

‏{‏وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا‏}‏ قال عطاء‏:‏ ودُّوا لو تُسوى بهم الأرضُ وأنهم لم يكونُوا كَتَمُوا أمرَ محمدِ صلى الله عليه وسلم ولا نَعْتَه‏.‏ وقال الآخرون‏:‏ بل هو كلامٌ مستأنف، يعني‏:‏ ولا يكتمون الله حديثا لأن ما عملوا لا يخفى على الله ولا يقدرون على كتمانه‏.‏ وقال الكلبي وجماعة‏:‏ ‏{‏وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا‏}‏ لأن جوارحَهم تشهدُ عليهم‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إني أجد في القرآن أشياء تختلفُ عليّ، قال‏:‏ هاتِ ما اختلفَ عليك، قال‏:‏ ‏"‏فَلا أنسابَ بينهم يومئذٍ ولا يتساءَلُون‏"‏ المؤمنون- 101‏)‏، ‏"‏وأقبل بعضُهم على بعض يتساءَلون‏"‏ الطور- 25‏)‏ وقال‏:‏ ‏"‏ولا يكتُمُون الله حديثًا‏"‏، وقال ‏"‏والله ربّنا ما كنّا مشركين‏"‏ الأنعام- 23‏)‏ فقد كَتَمُوا، وقال‏:‏ ‏"‏أم السماءُ بناها‏"‏، إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏والأرض بعد ذلك دحاها‏"‏، فذكر خلق السماء قبل الأرض، ثم قال‏:‏ ‏"‏أإنّكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏"‏، إلى قوله‏:‏ ‏"‏طائعين‏"‏ فصلت 9- 11‏)‏ فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء، وقال‏:‏ ‏"‏وكان الله غفورًا رحيمًا‏"‏ ‏"‏وكان الله عزيزًا حكيمًا‏"‏ فكأنه كان ثم مضى‏؟‏‏.‏

فقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ونُفخَ في الصور فَصَعِقَ من في السموات ومَنْ في الأرض إلا مَنْ شاءَ الله‏"‏ الزمر- 68‏)‏، فلا أنسابَ عند ذلك ولا يتساءَلُون، ثم في النفخة الآخرة ‏{‏أقبل بعضهم على بعض يتساءَلُون‏}‏، وأما قوله‏:‏ ‏{‏ما كنّا مشركين‏}‏ ‏{‏ولا يكتُمُون الله حديثًا‏}‏، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذُنوبَهُم، فيقول المشركون‏:‏ تعالوا نَقُلْ لم نكن مشركين، فيُخْتَمُ على أفواههم وتنطق أيديهم فعند ذلك عُرف أن الله لا يُكْتَمُ حديثًا، وعنده ‏{‏يوُّد الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض‏}‏، و ‏{‏خلق الأرض في يومين‏}‏، ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسوَّاهنّ في يومين آخرَين ثم دحا الأرض، ودحيها‏:‏ أن أخْرجَ منها الماء والمرعى وخَلَقَ الجبَالَ والآكَامَ وما بينهما في يومَين آخرين، فقال‏:‏‏:‏ خلق الأرضَ في يومَين فجُعِلت الأرضُ وما فيها من شيء في أربعةِ أيام، وخُلقَتِ السمواتُ في يومَين، ‏{‏وكان الله غفورا رحيمًا‏}‏ أي‏:‏ لم يزل كذلك، فلا يختلف عليك القرآنُ فإن كُلا من عند الله‏.‏

وقال الحسن‏:‏ إنها مواطن، ففي موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همسًا، وفي موطن يتكلمون ويكْذِبُون ويقولون‏:‏ ما كنّا مشركين، وما كنّا نعمل من سوء، وفي موضع يعترفُون على أنفسهم وهو قوله‏:‏ ‏{‏فاعترفوا بذنبهم‏}‏ وفي موضع لا يتساءَلُون، وفي موطن يَسألون الرجعة، وآخِرُ تلك المواطن أن يُخْتمَ على أفواههم وتتكلم جُوارحهم، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏43‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى‏}‏ الآية، والمراد من السُّكْرِ‏:‏ السُّكْرُ من الخمر، عند الأكثرين، وذلك أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه صنَع طعامًا ودعا ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوها قبل تحريم الخمر وسَكِرُوا فحضرتْ صلاة المغرب فقدَّمُوا رجلا ليصلي بهم فقرأ ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏ أعبد ما تعبدون، بحذف ‏{‏لا‏}‏ هكذا إلى آخر السورة، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السُّكْرَ أوقات الصلوات حتى نزل تحريم الخمر‏.‏

وقال الضحاك بن مزاحم‏:‏ أراد به سكر النوم، نهى عن الصلاة عند غلبة النوم، أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن المغلِّس أنا هارون بن إسحاق الهمذاني، أخبرنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالتْ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ينعس لعله يذهبُ يستغفرُ فيسبُ نفسه‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا‏}‏ نصب على الحال، يعني‏:‏ ولا تقربوا الصلاة وأنتم جُنُبٌ، يقال‏:‏ رجل جُنُبٌ وامرأة جُنُبٌ، ورجال جُنُبٌ ونساء جُنُبٌ‏.‏

وأصل الجنابةِ‏:‏ البُعْد وسُمّي جنبًا لأنه يتجنب موضع الصلاة، أو لمجانبته الناسَ وبُعدِهِ منهم، حتىّ يغتسلَ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا‏}‏ اختلفوا في معناه، فقالوا‏:‏ إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون الماء فتيمَّمُوا، مَنَع الجنب من الصلاة حتى يغتسل إلا أن يكون في سفر ولا يجد ماء فيصلي بالتيمم، وهذا قول علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد رضي الله عنهم‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ المراد من الصلاة موضع الصلاة، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وبيَعٌ وصَلَوات‏"‏ الحج- 40‏)‏، ومعناه‏:‏ لا تقربُوا المسجدَ وأنتم جُنُبٌ إلا مجتازين فيه للخروج منه، مثل أن ينام في المسجد فيجنب أو تصيبه جنابة والماء في المسجد أو يكون طريقه عليه، فيمرّ فيه ولا يقيم وهذا قول عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والضحاك والحسن وعكرمة والنخعي والزهري، وذلك أنّ قوما من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة وَلا مَاءَ عندهم ولا ممرّ لهم إلا في المسجد، فرُخِّص لهم في العُبور‏.‏

واختلف أهل العلم فيه‏:‏ فأباح بعضهم المرورَ فيه على الإطلاق، وهو قول الحسن وبه قال مالك والشافعي رحمهم الله، ومنع بعضهم على الإطلاق وهو قول أصحاب الرأي، وقال بعضهم‏:‏ يتيمم للمرور فيه‏.‏

أما المُكْث فلا يجوز عند أكثر أهل العلم لِمَا روينا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏وجَّهُوا هذه البيوت عن المسجد فإنّي لا أًحِلُّ المسجدَ لحائض ولا جنب‏"‏، وجوَّز أحمد المكث فيه وضعّف الحديث لأن راويه مجهول، وبه قال المزني‏.‏

ولا يجوز للجنب الطواف كما لا يجوز له الصلاة ولا يجوز له قراءة القرآن، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا شعبة أخبرني عمرو بن مرة قال سمعت عبد الله بن سلمة يقول‏:‏ دخلت على علي رضي الله عنه فقال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الحاجة ويأكل معنا اللحم ويقرأ القرآن وكان لا يحجبه أو لا يحجزه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة‏"‏‏.‏

وغُسل الجنابة يجب بأحد الأمرين‏:‏ إما بنزول المني أو بالتقاء الختانين، وهو تغييب الحشفة في الفرج وإن لم يُنزل، وكان الحكم في الابتداء أنّ من جامع امرأته فأكسل لا يجب عليه الغسل ثم صار منسوخًا‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا سفيان، عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أنّ أبا موسى الأشعري سأل عائشة رضي الله عنها عن التقاء الختانين فقالت عائشة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا التقى الختانان، أو مَسّ الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى‏}‏ جمع مريض، وأراد به مريضًا يضره إمساسُ الماء مثل الجدري ونحوه، أو كان على موضع طهارته جراحة يخاف من استعمال الماء فيها التَّلَف أو زيادةَ الوجع، فإنه يصلي بالتيمم وإن كان الماء موجودًا، وإن كان بعض أعضاء طهارته صحيحًا والبعض جريحًا غسل الصحيح منها وتيمم للجريح، لما أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني، أنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي، أنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي، أنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، أنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي، أنا محمد بن سلمة عن الزبير بن خُرَيق عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجرٌ فشجَّه في رأسه، فاحتلم فسأل أصحابه‏:‏ هلْ تجدون لي رخصة في التيمم‏؟‏ قالوا‏:‏ ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلمّا قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال‏:‏ ‏"‏قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنّما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب- شك الراوي- على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده‏"‏‏.‏

ولم يجوّز أصحاب الرأي الجمع بين التيمم والغسل، وقالوا‏:‏ إن كان أكثر أعضائه صحيحا غسل الصحيح ولا يتيمم عليه، وإن كان الأكثر جريحًا اقتصر على التيمم‏.‏

والحديث حجة لمن أوجب الجمع بينهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ عَلَى سَفَرٍ‏}‏ أراد أنه إذا كان في سفر طويلا كان أو قصيرًا، وعُدم الماءُ فإنه يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه، لما رُوي عن أبي ذر قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الصّعيدَ الطّيبَ وضوءُ المسلم وإن لم يجدِ الماءَ عشْرَ سنين، فإذا وَجَد الماء فليمسّه بَشَرَهُ‏"‏‏.‏

أمّا إذا لم يكن الرجل مريضًا ولا في سفر لكنه عدم الماء في موضع لا يُعدَمُ فيه الماءُ غالبا بأن كان في قرية انقطع ماؤها فإنه يصلي بالتيمم ثم يعيد إذا قدر على الماء عند الشافعي، وعند مالك والأوزاعي لا إعادة عليه، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه يؤخر الصلاة حتى يجد الماء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ‏}‏ أراد به إذا أحدث، والغائط‏:‏ اسم للمطمئن من الأرض، وكانت عادة العرب اتيان الغائط للحدث فكُنيَّ عن الحدث بالغائط، ‏{‏أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي ‏"‏ لمَسَتْمُ ‏"‏ هاهنا وفي المائدة، وقرأ الباقون ‏{‏لامَسْتُمُ النِّسَاءَ‏}‏‏.‏

واختلفوا في معنى اللمس والمُلامَسة، فقال قوم‏:‏ المجامعة، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وكنيّ باللمس عن الجماع لأن الجماع لا يحصل إلا باللّمس‏.‏

وقال قوم‏:‏ هما التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو غير جماع، وهو قول ابن مسعود وابن عمر، والشعبي والنخعي‏.‏

واختلف الفقهاء في حكم الآية فذهب جماعة إلى أنه إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة ولا حائل بينهما، ينتقض وضوؤهما، وهو قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما، وبه قال الزهري والأوزاعي والشافعي رضي الله عنهم‏.‏

وقال مالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق‏:‏ إن كان اللمس بشهوة نقض الطهر، وإن لم يكن بشهوة فلا ينتقض‏.‏

وقال قوم‏:‏ لا ينتقض الوضوءُ باللمس بحال، وهو قول ابن عباس وبه قال الحسن والثوري‏.‏

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا ينتقض إلا أن يحدثَ الانتشار‏.‏

واحتج من لم يوجب الوضوء باللمس بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت‏:‏ كنتُ أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضتُ رجلي وإذا قام بسطتًهما، قالت والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ كنتُ نائمةً إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدتُه من الليل فلمستُه بيدي فوضعتُ يدي على قدميه وهو ساجد وهو يقول‏:‏ ‏"‏أعوذُ برضاك من سخطك وبمعافاتِك من عُقوبتك وبك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك‏"‏‏.‏

واختلف قول الشافعي رضي الله عنه فيما لو لمس امرأة من محارمه كالأم والبنت والأخت أو لمس أجنبية صغيرة، أصح القولين أنه لا ينقض الوضوء لأنها ليست بمحل الشهوة كما لو لمس رجلا‏.‏

واختلف قوله في انتقاض وضوء الملموس على قولين، أحدهما‏:‏ ينتقض لاشتراكهما في الالتذاذ كما يجب الغسل عليهما بالجماع، والثاني‏:‏ لا ينتقض لحديث عائشة رضي الله عنها حيث قالت‏:‏ فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد‏.‏

ولو لمس شعر امرأة أو سنها أو ظفرها لم ينتقض وضوؤه عنده‏.‏

واعلم أن المُحْدِثَ لا تصح صلاته ما لم يتوضأ إذا وجد الماء أو يتيمم إذا لم يجد الماء‏.‏ أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي، أخبرنا أبو طاهر الزيادي، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أنا أحمد بن يوسف السلمي، أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن همام بن منبه، أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ‏"‏‏.‏

والحدث هو خروج الخارج من أحد الفرجين عيْنًا كان أو أثرًا، والغلبة على العقل بجنون أو إغماء على أي حال كان، وأما النوم فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يوجب الوضوء إلا أن ينام قاعدًا متمكنًا فلا وضوء عليه، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أنا الشافعي، أنا الثقة عن حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنهما قال‏:‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء فينامون، أحسبه قال قعودًا حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون‏.‏

وذهب قوم إلى أن النوم يُوجب الوضوءَ بكل حال وهو قول أبي هريرة رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها، وبه قال الحسن وإسحاق والمُزَني، وذهب قوم إلى أنه لو نام قائمًا أو قاعدًا أو ساجدًا فلا وضوء عليه حتى ينام مضطجعا وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي‏.‏

واختلفوا في مس الفرج من نفسه أو من غيره فذهب جماعة إلى أنه يوجب الوضوء وهو قول عمر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنها، وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي، وأحمد وإسحاق، وكذلك المرأة تمسُّ فرجَها، غير أن الشافعي رضي الله عنه يقول لا ينتقض إلا أن يمس ببطن الكف أو بطون الأصابع‏.‏

واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر محمد بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول‏:‏ دخلتُ على مروان بن الحكم فذكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان‏:‏ مِنْ مَسِّ الذكر الوضوء، فقال عروة‏:‏ ما علمتُ ذلك، فقال مروان‏:‏ أخبرتني بُسرةُ بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ‏"‏‏.‏

وذهب جماعة إلى أنه لا يوجب الوضوء، روي ذلك عن علي وابن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة وبه قال الحسن، وإليه ذهب الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي‏.‏

واحتجوا بما روي عن طلق بن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن مسِّ الرجل ذكرَه، فقال‏:‏ ‏"‏هل هو إلا بضعةٌ منك‏"‏‏؟‏ ويُروى ‏"‏هل هو إلا بضعة أو مضغة منه‏"‏‏.‏

ومن أوجب الوضوء منه قال‏:‏ هذا منسوخ بحديث بُسرة لأن أبا هريرة يروي أيضًا‏:‏ أنّ الوضوء من مس الذكر، وهو متأخّر الإسلام، وكان قدوم طلق بن علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول زمن الهجرة حين كان يبني المسجد‏.‏

واختلفوا في خروج النجاسة من غير الفرجين بالفصد والحجامة وغيرهما من القيء ونحوه، فذهب جماعة إلى أنه لا يُوجب الوضوءَ، رُوي ذلك عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، وبه قال عطاء وطاوس والحسن وسعيد بن المسيب وإليه ذهب مالك والشافعي‏.‏

وذهبت جماعة إلى إيجاب الوضوء بالقيء والرعاف والفصْد والحِجَامة منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق‏.‏

واتفقوا على أن القليل منه وخروج الريح من غير السبيلين لا يُوجِبُ الوضوءَ ولو أوجب الوضوءَ كثيره لأوجب قليله كالفرج‏.‏

‏{‏فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا‏}‏ اعلم أن التيمم من خصائص هذه الأمة، رَوَى حُذيفةُ رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فُضِّلْنَا على الناس بثلاثٍ‏:‏ جُعلتْ صفوفُنا كصفُوف الملائكة، وجُعلتْ لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء‏"‏‏.‏

وكان بدء التيمم ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنّا بالبيداء أو بذات الجيش انقطعَ عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التِمَاسِه وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناسُ أبا بكر رضي الله عنه فقالوا ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبو بكر رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال‏:‏ أحبستِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، قالت‏:‏ فعاتبني أبو بكر رضي الله عنه وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله تعالى آية التيمم ‏{‏فَتَيَمَّمُوا‏}‏ فقال أُسيد بن حُضير وهو أحد النقباء‏:‏ ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فبعثنا البعيرَ الذي كنت عليه فوجدنا العقدَ تحتَهُ‏.‏

وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبيد بن إسماعيل، أنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ أنها استعارتْ من أسماء قلادًة فهلكت‏:‏ فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسًا من أصحابه في طلبها فأدركتْهم الصلاةُ فصلوا بغير وضوء، فلمّا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم‏.‏ فقال أُسيد بن حضير‏:‏ جزاك الله خيرًا فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجًا وجعل للمسلمين فيه بركة‏.‏

‏{‏فَتَيَمَّمُوا‏}‏ أي‏:‏ اقصُدُوا، ‏{‏صَعِيدًا طَيِّبًا‏}‏ أي‏:‏ ترابًا طاهرًا نظيفًا، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ الصعيدُ هو التراب‏.‏

واختلف أهل العلم فيما يجوز به التيمم، فذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنه يختص بما يقع عليه اسم التراب مما يعلق باليد منه غبار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏وجُعلتْ تربتُها لنا طهورًا‏"‏‏.‏

وجوّز أصحاب الرأي التيمم بالزرنيخ والجص والنُّوْرة وغيرها من طبقات الأرض، حتى قالوا‏:‏ لو ضرب يديه على صخرة لا غبار عليها أو على التراب ثم نفخ فيه حتى زال كله فمسح به وجهه ويديه صحّ تيممُه، وقالوا‏:‏ الصعيد وجهُ الأرض، لما رُوي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏جُعلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا‏"‏‏.‏

وهذا مجمل، وحديث حذيفة في تخصيص التراب مفسَّر، والمفسَّر من الحديث يقضي على المُجمل‏.‏

وجوز بعضهم التيمم بكل ما هو متصل بالأرض من شجر ونبات، ونحوهما وقال‏:‏ إن الصعيد اسم لما تصاعد على وجه الأرض‏.‏

والقصد إلى التراب شرطٌ لصحة التيمم، لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏فَتَيَمَّمُوا‏}‏ والتيمم‏:‏ القصد، حتى لو وقف في مهب الريح فأصابَ الغبارُ وجهَهُ ونوى لم يصح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا‏}‏ اعلم أن مسح الوجه واليدين واجب في التيمم، واختلفوا في كيفيته‏:‏ فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يمسح الوجه واليدين مع المرفقين، بضربتين، يضرب كفيه على التراب فيمسح جميع وجهه، ولا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الشعور، ثم يضرب ضربةً أخرى فيمسح يديه إلى المرفقين، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد بن الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا إبراهيم بن محمد، عن أبي الحُويرث، عن الأعرج، عن أبي الصمة قال‏:‏ مررتُ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلمت عليه فلم يردَّ علي حتى قام إلى جدار فحته بعصًا كانت معه، ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ثم ردّ عليّ‏"‏ ففيه دليلٌ على وجوب مسح اليدين إلى المرفقين كما يجب غسلهما في الوضوء إلى المرفقين، ودليلٌ على أن التيمم لا يصح ما لم يعلق باليد غبار التراب، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم حتَّ الجدارَ بالعصا، ولو كان مجرد الضرب كافيًا لما كان حتَّه‏.‏

وذهب الزهري إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين، لما رُوي عن عمار أنه قال‏:‏ تَيَمّمْنَا إلى المناكب‏.‏

وذلك حكاية فعله لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما رُوي أنه قال‏:‏ أجنبتُ فتمعكتَ في التراب، فلمّا سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمره بالوجه والكفين‏.‏

وذهب جماعة إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، وهو قول علي وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال الشعبي وعطاء بن أبي رباح ومكحول، وإليه ذهب الأوزاعي وأحمد وإسحاق، واحتجوا بما أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا آدم، أنا شعبة، أخبرنا الحكم، عن ذر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي، عن أبيه قال‏:‏ جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال‏:‏ إني أجنبتُ فلم أصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب‏:‏ أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت، فأمّا أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكتُ فصليت فذكرتُ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرضَ ونفخَ فيهما، ثم مسحَ بهما وجهَهُ وكفيه‏"‏‏.‏

وقال محمد بن إسماعيل أنا محمد بن كثير عن شعبة بإسناده فقال عمار لعمر رضي الله عنه‏:‏ تمعكتُ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏يكفيك الوجه والكفان‏"‏‏.‏

وفي الحديث دليل على أن الجنب إذا لم يجد الماء يصلي بالتيمم، وكذا الحائض والنفساء إذا طُهُرتَا وعُدمَتا الماء‏.‏

وذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما إلى أن الجنب لا يصلي بالتيمم بل يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء فيغتسل، وحملا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ‏}‏ على اللمس باليد دون الجماع، وحديث عمار رضي الله عنه حجة، وكان عمر نسي ما ذَكَرَ له عمار فلم يقنع بقوله‏.‏ وروي أن ابن مسعود رضي الله عنه رجع عن قوله وجوّز التيمم للجنب، والدليل عليه أيضا‏:‏ ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا إبراهيم بن محمد بن عياد بن منصور، عن أبي رجاء العطاردي، عن عمران بن حصين رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا كان جنبًا أن يتيمم ثم يصلي فإذا وجدَ الماءَ اغتسلَ‏.‏

وأخبرنا عمر بن عبد العزيز، أنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي، أنا أبو علي اللؤلؤي، أنا أبو داود السجستاني، أنا مسدد، أنا خالد الواسطي، عن خالد الحذاء، عن أبي عمرو، عن بجدان، عن أبي ذر رضي الله عنهم قال‏:‏ اجتمعت غنيمة من الصدقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا أبا ذر ابْدُ فيها، فبدوت إلى الربذة وكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏الصعيدُ الطيبُ وضوءُ المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماءَ فأمسّه جلدك فإنّ ذلك خير‏"‏‏.‏

ومسح الوجه واليدين في التيمم، تارة يكون بدلا من غسل جميع البدن في حق الجنب والحائض والنفساء والميت، وتارة يكون بدلا عن غسل الأعضاء الأربع في حق المحدث، وتارة يكون بدلا عن غسل بعض أعضاء الطهارة، بأن يكون على بعض أعضاء طهارته جراحةٌ لا يمكنه غسل محلها، فعليه أن يتيمم بدلا عن غسله‏.‏

ولا يصح التيمم لصلاة الوقت إلا بعد دخول الوقت، ولا يجوز أن يجمع بين فريضتين بتيممٍ واحدٍ، لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا‏}‏ ظاهر الآية يدل على وجوب الوضوء أو التيمم إذا لم يجد الماء عند كل صلاة، إلا أن الدليل قدْ قامَ في الوضوء فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة الصلوات بوضوءٍ واحد، فبقي التيمم على ظاهره، وهذا قول علي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏

وذهب جماعة إلى أن التيمم كالطهارة بالماء يجوز تقديمه على وقت الصلاة، ويجوز أن يصلي به ما شاء من الفرائض ما لم يُحدث، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي‏.‏

واتفقوا على أنه يجوز أن يصلي بتيمم واحد مع الفريضة ما شاء من النوافل، قبل الفريضة وبعدها، وأن يقرأ القرآن إن كان جنبًا، وإن كان تيممه بعذر السفر وعدم الماء فيشترط طلب الماء، وهو أن يطلبه من رحله ورفقائه‏.‏

وإن كان في صحراء لا حائل دون نظره ينظر حَوَالَيْه، وإن كان دون نظره حائل قريب من تلِّ أو جدار عدل عنه، لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا‏}‏ ولا يُقال‏:‏ لم يجد الماء‏:‏ إلا لمن طلب‏.‏

وعند أبي حنيفة رضي الله عنه‏:‏ طلب الماء ليس بشرط، فإن رأي الماءَ ولكن بينه وبين الماء حائل من عدو أو سبع يمنعه من الذهاب إليه، أو كان الماء في البئر وليس معه آلة الاستقاء، فهو كالمعدوم، يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 46‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ‏(‏44‏)‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ‏(‏45‏)‏ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا ‏(‏46‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ يعني‏:‏ يهود المدينة، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم، كان إذا تكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم لَوَّيَا بألسنتهما وعابَاهُ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ‏{‏يَشْتَرُون‏}‏ يستبدلون، ‏{‏الضَّلالَة‏}‏ يعني‏:‏ بالهدى، ‏{‏وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ‏}‏ أي‏:‏ عن السبيل يا معشر المؤمنين

‏{‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ‏}‏ منكم فلا تستنصِحُوهم فإنهم أعداؤكم، ‏{‏وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه اكتفُوا بالله وليًا واكتفوا بالله نصيرًا‏.‏

‏{‏مِنَ الَّذِينَ هَادُوا‏}‏ قيل‏:‏ هي متصلة بقوله ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ ‏{‏مِنَ الَّذِينَ هَادُوا‏}‏ وقيل‏:‏ هي مستأنفة، معناه‏:‏ من الذين هادُوا مَنْ يُحرِّفون، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وما مِنَّا إلا له مقامٌ معلوم‏"‏ الصافات- 164‏)‏ أي‏:‏ مَنْ له مقام معلوم، يُريدُ‏:‏ فريقٌ، ‏{‏يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ‏}‏ يُغَيِّروُنَ الكلم ‏{‏عَنْ مَوَاضِعِهِ‏}‏ يعني‏:‏ صفة محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كانت اليهود يأتون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن الأمر، فيُخبرهم، فيرى أنهم يأخذون بقوله، فإذا انصرفُوا من عنده حرَّفُوا كلامَه، ‏{‏وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا‏}‏ قولك ‏{‏وَعَصَيْنَا‏}‏ أمرك، ‏{‏وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ‏}‏ أي‏:‏ اسمعْ منّا ولا نسمع منك، ‏{‏غَيْرَ مُسْمَعٍ‏}‏ أي‏:‏ غير مقبول منك، وقيل‏:‏ كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اسمع، ثم يقولونَ في أنفسهم‏:‏ لا سمعت، ‏{‏وَرَاعِنَا‏}‏ أي‏:‏ ويقولون راعِنَا، يُريدُونَ به النسبة إلى الرُّعونة، ‏{‏لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ‏}‏ تحريفا ‏{‏وَطَعْنًا‏}‏ قدحا ‏{‏فِي الدِّينِ‏}‏ أن قوله‏:‏ ‏"‏وراعنا‏"‏ من المراعاة، وهم يحرِّفُونه، يُريدون به الرُّعونة، ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا‏}‏ أي‏:‏ انظر إلينا مكان قولهم رَاعِنا، ‏{‏لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ‏}‏ أي أعدل وأصوب، ‏{‏وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا‏}‏ إلا نفرًا قليلا منهم، وهو عبد الله بن سلام ومن أسلم معه منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا ‏(‏47‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏ يُخاطب اليهود، ‏{‏آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، ‏{‏مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ التوراة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كلَّم أحبار اليهود‏:‏ عبد الله بن صوريا وكعب بن الأشرف، فقال‏:‏ ‏"‏يا معشر اليهود اتُقوا الله وأسلموا، فوالله إنّكم لتعلمون أنّ الذي جئْتُكم به لحق‏"‏، قالوا‏:‏ ما نعرف ذلك، وأصروا على الكفر، فنزلت هذه الآية‏.‏

‏{‏مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نجعلها كخف البعير، وقال قتادة والضحاك‏:‏ نُعميها، والمراد بالوجه العين، ‏{‏فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا‏}‏ أي‏:‏ نطمسُ الوجه فنرده على القفا، وقيل‏:‏ نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة، لأن منابت شعور الآدميين في أدبارهم دون وجوههم، وقيل‏:‏ معناه نمحو آثارها وما فيها من أنف وعين وفم وحاجب فنجعلها كالأقفاء، وقيل‏:‏ نجعل عينيه على القفا فيمشي قهقرى‏.‏

روي أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه لمّا سَمِعَ هذه الآية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله، ويده على وجهه، وأسلم وقال‏:‏ يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي، وكذلك كعب الأحبار لما سمع هذه الآية أسلم في زمن عمر رضي الله عنه، فقال‏:‏ يا رب آمنتُ، يا رب أسلمتُ، مخافة أن يصيبَهُ وعيدُ هذه الآية‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد أوعدهم بالطمس إن لم يُؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يُفعل بهم ذلك‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ هذا الوعيد باق، ويكون طمسٌ ومسخٌ في اليهود قبل قيام الساعة‏.‏

وقيل‏:‏ كان هذا وعيدًا بشرط، فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه دفع ذلك عن الباقين‏.‏

وقيل‏:‏ أراد به القيامة، وقال مجاهد أراد بقوله‏:‏ ‏{‏نَطْمِسَ وُجُوهًا‏}‏ أي‏:‏ نتركهم في الضلالة، فيكون المراد طمس وجه القلب، والردّ عن بصائر الهدى على أدبارها في الكفر والضلالة‏.‏

وأصل الطمس‏:‏ المحو والإفساد والتحويل، وقال ابن زيد‏:‏ نمحُو آثارَهم من وجوههم ونواحيهم التي هم بها، فنردّها على أدبارهم‏؟‏ حتى يعودوا إلى حيث جاؤوا منه بدءًا وهو الشام، وقال‏:‏ قد مضى ذلك، وتأوله في إجلاء بني النضير إلى أذرعات وأريحاء من الشام ‏{‏أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ‏}‏ فنجعلهم قردة وخنازير، ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ‏(‏48‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ نزلت في وحشي بن حرب وأصحابه، وذلك أنه لمّا قتل حمزة كان قد جعل له على قتله أن يُعتق فلم يُوَفَّ له بذلك، فلما قدم مكة ندم على صنيعه هو وأصحابه فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنا قد ندمنا على الذي صنعنا وأنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول وأنت بمكة‏:‏ ‏"‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر‏"‏ الآيات الفرقان- 68‏)‏، وقد دعونا مع الله إلهًا آخر وقتلنا النفس التي حرّم الله وزنينا، فلولا هذه الآيات لاتبعناك، فنزلت‏:‏ ‏"‏إلا من تابَ وآمَنَ وعملَ عملا صالحًا‏"‏ الآيتين، الفرقان- 70- 71‏)‏ فبعث بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلمّا قرأوا كتبوا إليه‏:‏ إن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحًا، فنزل‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏، فبعث بها إليهم فبعثوا إليه‏:‏ إنّا نخاف أن لا نكون من أهل المشيئة فنزلت‏:‏ ‏"‏قل يا عبادَي الذين أسرَفُوا على أنفسهم لا تَقْنَطٌوا مِنْ رحمةِ الله‏"‏ الزمر- 53‏)‏، فبعث بها إليهم فدخلوا في الإسلام ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبل منهم، ثم قال لوحشي‏:‏ أخبرني كيف قتلتَ حمزة‏؟‏ فلمّا أخبره قال‏:‏ ‏"‏ويحك غيّب وجهك عني‏"‏، فلحق وحشي بالشام فكان بها إلى أن مات‏.‏

وقال أبو مجلز عن ابن عمر رضي الله عنه لمّا نزلت‏:‏ ‏"‏قل يا عباديَ الذين أسرَفُوا على أنفسهم‏"‏، الآية قام رجل فقال‏:‏ والشرك يا رسول الله، فسكتَ ثم قام إليه مرتين أو ثلاثا فنزلت ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ‏}‏‏.‏

وقال مُطرف بن عبد الله بن الشخير‏:‏ قال ابن عمر رضي الله عنه‏:‏ كنا على عهد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ فأمسكنا عن الشهادات‏.‏

حكي عن علي رضي الله عنه أن هذه الآية أرجى آية في القرآن ‏"‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏"‏‏.‏

‏{‏وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى‏}‏ اختلق، ‏{‏إِثْمًا عَظِيمًا‏}‏ أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا محمد بن حماد، أنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال‏:‏ أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلُ فقال‏:‏ يا رسول الله ما الموجبتان‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏مَنْ مات لا يُشركُ بالله شيئا دخل الجنة، ومَنْ مات يشركُ بالله شيئا دخل النار‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أبو معمر، أنا عبد الوارث، عن الحسين يعني‏:‏ المعلم، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعَمُر حدثه أن أبا الأسود الدؤلي حدّثه أن أبا ذر حدّثه قال‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبٌ أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال‏:‏ ‏"‏ما من عبد قال‏:‏ لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة‏"‏ قلتُ‏:‏ وإنْ زنى وإنْ سرق‏؟‏ قال ‏"‏وإنْ زنى وإنْ سرق‏"‏ قلتُ‏:‏ وإنْ زنى وإنْ سرق‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وإنْ زنى وإنْ سرق‏"‏ قلتُ‏:‏ وإنْ زنى وإنْ سرق‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وإنْ زنى وإنْ سرق على رَغْمِ أنفِ أبي ذر‏"‏، وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال‏:‏ وإنْ رغم أنف أبي ذر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا ‏(‏49‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ الآية، قال الكلبي‏:‏ نزلت في رجال من اليهود منهم بحري بن عمرو والنعمان بن أوفى ومرحب بن زيد، أتوا بأطفالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا محمد هل على هؤلاء من ذنب‏؟‏ فقال‏:‏ لا قالوا‏:‏ ما نحن إلا كهيئتهم، ما عَمِلْنا بالنهار يُكفَّر عنا بالليل، وما عَمِلْنَا بالليل يُكفّر عنا بالنهار، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏‏.‏

وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ كانوا يُقدِّمون أطفالهم في الصلاة، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم، فتلك التزكية‏.‏

وقال الحسن والضحاك وقتادة ومقاتل‏:‏ نزلت في اليهود والنصارى حين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، ‏"‏وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى‏"‏ البقرة- 111‏)‏ وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏:‏ هو تزكية بعضهم لبعض، روي طارق بن شهاب عن ابن مسعود قال‏:‏ إن الرجل ليغدو من بيته ومعه دِينُه فيأتي الرجل لا يملك له ولا لنفسه ضرًا ولا نفعًا فيقول‏:‏ والله إنك كيتَ وكيتَ‏!‏‏!‏ ويرجع إلى بيته وما معه من دينه شيء، ثم قرأ‏:‏ ‏"‏ألم تَرَ إلى الذين يُزَكُّون أنفسهم‏"‏، الآية‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي‏}‏ أي‏:‏ يطهر ويبرئ من الذنوب ويصلح، ‏{‏مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا‏}‏ وهو اسم لما في شقِّ النَّواة، والقطمير اسم للقشرة التي على النَّواة، والنقير اسم للنقطة التي على ظهر النَّواة، وقيل‏:‏ الفتيل من الفتل وهو ما يجعل بين الأصبعين من الوسخ عند الفتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ‏(‏50‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا ‏(‏51‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ‏(‏52‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انْظُر‏}‏ يا محمد، ‏{‏كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ‏}‏ يختلقون على الله، ‏{‏الْكَذِبَ‏}‏ في تغييرهم كتابه، ‏{‏وَكَفَى بِهِ‏}‏ بالكذب ‏{‏إِثْمًا مُبِينًا‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏}‏ اختلفوا فيهما فقال عكرمة‏:‏ هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله، وقال أبو عبيدة‏:‏ هما كل معبود يُعبد من دون الله‏.‏ قال الله تعالى ‏"‏أن اعبدوا الله واجتنبوا الطَّاغُوتَ‏"‏ النحل- 36‏)‏، وقال عمر‏:‏ الجِبْتُ‏:‏ السحر، والطاغُوتُ‏:‏ الشيطان‏.‏ وهو قول الشعبي ومجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ الجِبتُ‏:‏ الأوثان، والطاغوت‏:‏ شياطين الأوثان‏.‏ ولكل صنمٍ شيطان، يُعبرِّ عنه، فيغترُّ به الناس‏.‏ وقال محمد بن سيرين ومكحول‏:‏ الجبتُ‏:‏ الكاهن، والطاغوتُ‏:‏ الساحر‏.‏ وقال سعيد بن جبير وأبو العالية‏:‏ الجبتُ‏:‏ الساحر بلسان الحبشة، والطاغوتُ‏:‏ الكاهن‏.‏ ورُوي عن عكرمة‏:‏ الجبتُ بلسان الحبشة‏:‏ شيطان‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ الجبت‏:‏ حُييُّ بن أخطب، والطاغوتُ‏:‏ كعب بن الأشرف‏.‏ دليله قوله تعالى‏:‏ ‏"‏يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت‏"‏ النساء- 60‏)‏ أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحيٌ أنا أبو الحسين بن بشران، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، أنا أحمد بن منصور الرمادي، أنا عبد الرزاق أنا معمر عن عوف العبدي عن حيان عن قَطَن بن قُبيصة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏العِيَافَةُ والطَّرْقُ والطِّيَرةُ مِنَ الجِبْتِ‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ الجبتُ كل ما حرم الله، والطاغوت كلُّ ما يُطغي الإنسان‏.‏

‏{‏وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا‏}‏ قال المفسرون‏:‏ خرج كعب بن الأشرف في سبعين راكبًا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أُحد ليُحالِفُوا قريشًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دُور قريش، فقال أهل مكة‏:‏ إنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب ولا نأمَنُ أن يكون هذا مكرًا منكم فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما ففعلوا ذلك، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏}‏‏.‏

ثم قال كعب لأهل مكة‏:‏ ليجيء منكم ثلاثون ومنّا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد ربَّ هذا البيت لنجهدنّ على قتال محمد ففعلوا‏.‏

ثم قال أبو سفيان لكعب‏:‏ إنّك امرؤٌ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أمّيُّون لا نعلم، فأينا أهدَى طريقة، نحنُ أم محمد‏؟‏

قال كعب‏:‏ اعرضُوا عليَّ دينكم‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونُعمّر بيتَ ربِّنا ونطوف به ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم، ودينُنا القديم ودينُ محمد الحديث‏.‏

فقال كعب‏:‏ أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ يعني‏:‏ كعبًا وأصحابه ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏}‏ يعني‏:‏ الصنمين ‏{‏وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ أبي سفيان وأصحابه ‏{‏هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ‏{‏سبيلا‏}‏ دينا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 55‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ‏(‏53‏)‏ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ‏(‏54‏)‏ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ‏(‏55‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ألَهُمْ‏؟‏ والميم صلة ‏{‏نَصِيبٌ‏}‏ حظ ‏{‏مِنَ الْمُلْكِ‏}‏ وهذا على جهة الإنكار، يعني‏:‏ ليس لهم من الملك شيء ولو كان لهم من الملك شيء، ‏{‏فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا‏}‏ لحسدهم وبخلهم، والنقير‏:‏ النقطة التي تكون في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة، وقال أبو العالية‏:‏ هو نقر الرجل الشيَء بطرف أصبعه كما ينقر الدرهم‏.‏

‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ‏}‏ يعني‏:‏ اليهود، ويحسدون الناس‏:‏ قال قتادة‏:‏ المراد بالناس العرب، حَسَدَهم اليهود على النُّبُوَّة، وما أكرمهم الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ أراد محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وجماعة‏:‏ المراد بالناس‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده حسدوه على ما أحلَّ الله له من النساء، وقالوا‏:‏ ما له هَمٌّ إلا النكاح، وهو المراد من قوله‏:‏ ‏{‏عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ وقيل‏:‏ حسدوه على النُّبوة وهو المراد من الفضل المذكور في الآية، ‏{‏فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ أراد بآل إبراهيم‏:‏ داود وسليمان، وبالكتاب‏:‏ ما أنزل الله عليهم وبالحكمة النُّبوة ‏{‏وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا‏}‏ فَمنْ فسَّرَ الفضلَ بكثرة النساء فسَّر المُلْكَ العظيم في حق داود وسليمان عليهما السلام بكثرة النساء، فإنه كان لسليمان ألف امرأة ثلاثمائة حرة وسبعمائة سرية، وكان لداود مائة امرأة، ولم يكن يومئذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسع نسوة، فلما قال لهم ذلك سكتوا‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه، ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ‏}‏ أعرضَ عنه ولم يؤْمن به، ‏{‏وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا‏}‏ وقودًا، وقيل‏:‏ المُلْك العظيم‏:‏ مُلك سليمان‏.‏ وقال السدي‏:‏ الهاء في قوله ‏{‏مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ‏}‏ راجعة إلى إبراهيم، وذلك أن إبراهيم زرعَ ذات سنة، وزرع الناسُ فهلك زرع الناس وزكا زرع إبراهيم عليه السلام، فاحتاج إليه الناس فكان يقول‏:‏ من آمن بي أعطيته فمن آمن به أعطاه، ومن لم يؤمن به منعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏56‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا‏}‏ ندخلهم نارًا، ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ‏}‏ احترقت ‏{‏جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا‏}‏ غير الجلود المحترقة، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يبدلون جلودًا بيضاء كأمثال القراطيس‏.‏

ورُوي أن هذه الآية قُرئتْ عند عمر رضي الله عنه، فقال عمر رضي الله عنه للقارئ‏:‏ أعدها فأعادها، وكان عنده معاذ بن جبل، فقال معاذ‏:‏ عندي تفسيرها‏:‏ تُبدّل في ساعة مائةَ مرة، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الحسن‏:‏ تأكلهم النار كلَّ يوم سبعين ألف مرة كلَّما أكلتهم قيل لهم عُودُوا فيعودون كما كانوا‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا معاذ بن أسيد، أنا الفضل بن موسى، أنا الفضيل، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ ‏"‏ما بين مَنْكِبَي الكافر مسيرة ثلاثة أيّام للراكب المسرع‏"‏‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنا عبد الغافر بن محمد، أنا محمد بن عيسى الجلودي، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، أنا شريح بن يونس، أنا حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح، عن هارون بن سعد، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ضرْسُ الكافر أو نابُ الكافر مثل أُحد، وغِلَظُ جلده مسيرة ثلاثة أيام‏"‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف تُعذب جلود لم تكن في الدنيا ولم تعصه‏؟‏

قيل يُعاد الجلد الأول في كلِّ مرة‏.‏

وإنما قال‏:‏ ‏{‏جُلُودًا غَيْرَهَا‏}‏ لتبدُّل صفتها، كما تقول‏:‏ صنعتُ من خاتمي خاتمًا غيره، فالخاتم الثاني هو الأول إلا أن الصناعة والصفة تبدلت، وكمن يترك أخاه صحيحًا ثم بعد مرة يراه مريضًا دنفًا فيقول‏:‏ أنا غير الذي عهدتَ، وهو عين الأول، إلا أن صفته تغيرّت‏.‏

وقال السدي‏:‏ يُبدل الجلدُ جلدًا غيره من لحم الكافر ثم يعيد الجلد لحمًا ثم يُخرج من اللحم جلدًا آخر وقيل‏:‏ يُعذَّب الشخص في الجلدِ لا الجلدُ، بدليل أنه قال‏:‏ ‏{‏لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ‏}‏ ولم يقل‏:‏ لتذوق وقال عبد العزيز بن يحيى‏:‏ إن الله عز وجل يُلبس أهل النار جلودًا لا تألم، فيكون زيادة عذاب عليهم، كلّما احترق جلدٌ بدَّلهم جلدًا غيره، كما قال‏:‏ ‏"‏سَرَابيلُهم مِنْ قَطِران‏"‏ ‏(‏إبراهيم- 50‏)‏ فالسرابيل تُؤْلمهم وهي لا تَأْلَم‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 58‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا ‏(‏57‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏58‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا‏}‏ كنينًا لا تنسخه الشمس ولا يُؤذيهم حرٌ ولا بردٌ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار، وكان سادِنَ الكعبة، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمانُ باب البيت وصَعَدَ السطح فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاحَ، فقيل‏:‏ إنه مع عثمان، فطلبه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى، وقال‏:‏ لو علمتُ أنه رسول الله لم أمنعه المفتاح، فَلَوَى عليُّ رضي الله عنه يَدَهُ فأخذ منه المفتاحَ وفتح البابَ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيتَ وصلى فيه ركعتين، فلمّا خرج سأله العباس المفتاح، أن يعطيه ويجمع له بين السِّقاية والسِّدانة، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرَّد المفتاحَ إلى عثمان ويعتذرَ إليه، ففعل ذلك علي رضي الله عنه، فقال له عثمان‏:‏ أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال علي‏:‏ لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآنأ وقرأ عليه الآية، فقال عثمان‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وكان المفتاح معه، فلمّا مات دفعه إلى أخيه شيبة، فالمفتاح والسدانة في أولادهم إلى يوم القيامة‏.‏

وقيل‏:‏ المراد من الآية جميع الأمانات‏.‏ أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي الزراد، أنا أبو بكر محمد بن إدريس الجرجاني وأبو أحمد بن محمد بن أحمد المعلم الهروي، قال‏:‏ أنا أبو الحسن علي بن عيسى الماليني، أنا الحسن بن سفيان النسوي، أنا شيبان بن أبي شيبة، أخبرنا أبو هلال عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ قلّمَا خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ألا لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ‏}‏ أي‏:‏ بالقسط، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا‏}‏ أي‏:‏ نعم الشيء الذي ‏{‏يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أنا أبو جعفر محمد بن حمد بن عبد الجبار الزيات، أنا حميد بن زنجويه، حدثنا ابن عباد، ثنا بن عيينه عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس، أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏المقسطون عند الله على منابِرَ من نُور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، هم الذين يَعْدِلُون في حكمهم وأهليهم ومَا وَلُوا‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا عبد الرحمن بن أبي شريح، أنا القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، أنا علي بن الجعد، أنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إن أحبَّ الناس إلى الله يومَ القيامةِ وأقربهم منه مجلسًا إمامٌ عادلٌ، وإن أبغضَ الناس إلى الله وأشدهم عذابًا إمامٌ جائرٌ‏"‏‏.‏